في الذكرى الـ 60 لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلديْن: هل تُصبح تونس شريكًا اقتصاديًّا للصين في إفريقيا وحوض البحر المتوسط؟
يُصادف هذا العام الذكرى الستين لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين الصين وتونس ففي مثل هذا اليوم وقبل 60 عامًا، أدّى رئيس مجلس الدولة الصيني ‘تشو أن لا’، زيارة صداقة إلى تونس وأصدر البلدان حينها بيانًا مشتركًا بشأن إقامة العلاقات الدبلوماسية بينهما وتخليدًا لذكرى هذه العلاقات تمّ إصدار طابع بريدي تذكاري يتضمن رسم لشجرة الزيتون والباندا الصيني بتصميم ‘دو شياو شياو’ وإصدار شركة ‘فيلاتيلي’ الصينية وتحت إشراف وزارة الخارجية الصينية.
جمهورية الصين الشعبيّة

الصين أكثر دُول العالم سُكّانًا، تعود حضارتها إلى 4 آلاف سنة تقريبًا وابتكرت العديد من أُسس العالم المُعاصر ومنها الورق والبارود والتسليف المصرفي والبوصلة والعملة الورقية والألعاب النارية وغيرها.
تأسست جمهورية الصين الشعبية في 1 أكتوبر 1949 ومن أبرز مواردها الطبيعية النفط والغاز الطبيعي والفحم واليورانيوم، بالإضافة إلى معادن متنوعة أبرزها الحديد والمنغنيز والنحاس والرصاص والزنك، كما تتوفر الصين على طاقة مائية هي الأكبر في العالم ويختلف مناخها من منطقة لأخرى بالنظر لمساحة البلاد الشاسعة، لكنه يصنف بشكل عام بين المداري وشبه المداري مع اختلاف في درجات الحرارة من شمال الصين إلى جنوبه.
العلاقات الصينيّة التونسيّة

تتميّز العلاقات بين الصين وتونس بالاحترام المُتبادل والتعامُل على قدم المُساواة والثقة السياسيّة المُتبادلة كما تعمل الصين وتونس على دعم بعضهما البعْض في القضايا الجوهرية والمشاغل الكبرى بالنسبة لكليهما.
ويتعاون البلدان في مجلس الأمن ويُساهمان في إيجاد الحل الشامل والعادل والدائم للقضيّة الفلسطينيّة وتتوفّر للحُكومتين والشعبيْن توافقات واسعة لتعميق العلاقات الثنائيّة، وهو من الشروط الأساسيّة لتطوير التعاون الثنائي.
وازداد الحجْم التجاري الثنائي كما ارتفع حجم الواردات من تونس وازدادت من ناحية أخرى واردات زيت الزيتون بما يعادل أربعة أضعاف إلى جانب توقيع الجانبين على اتفاق التعاون الاقتصادي والفني بين الحكومتين.
وكان وزير الخارجية الصيني، ‘وانغ يي’، قد زار تونس في جانفي المُنقضي بمناسبة الذكرى الستين للعلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
وكانت هذه الزيارة الهامة في سياق يتسم بتدعيم العالقات بين البلدين، حيث قال الرئيس الصيني ‘شي جين بينغ’ في رسالة تهنئة إلى رئيس الدولة قيس سعيد بمناسبة الذكرى السنوية لإقامة العالقات الدبلوماسية بين الصين وتونس، إن الصين وتونس شهدتا نموا قويا ومطّردا في العلاقات الثنائية على الرغم من التغيرات في المشهد الدولي معربا عن ارتياحه للنتائج التي تم تحقيقها، كما قال الرئيس الصيني إنه مستعد لاعتبار الذكرى السنوية نقطة بداية جديدة “لتجديد الصداقة التقليدية” بين البلدين وتحقيق تقدم جديد.
الحزام والطريق

تُعد تونس شريكاً قيّماً للصين بفضْل موْقعها في وسط ساحل شمال أفريقيا، وإمكانية وصولها إلى الأسواق الأوروبية والأفريقية وقربها من طرق الشحن الحيوية مما دفع بكين إلى إدراج تونس في ‘مبادرة الحزام والطريق’.
وتهدف إلى دفع تناسق السياسات وترابط المنشآت وتواصل الأعمال وتداول الأموال وتفاهم الشعوب.
وتعتبر الدول العربية التي تقع في منطقة التلاقي لـ’الحزام والطريق’، مشاركا مهما في حضارة طريق الحرير في التاريخ وشريكا طبيعيا لبناء ‘الحزام والطريق’.
وتستكمل معادلة التعاون الصيني العربي في بناء ‘الحزام والطريق’ بشكل مستمر، وحقق هذا التعاون عديد النتائج وفي جوان سنة 2014، طرح الرئيس ‘شي جينبينغ’ مبادرة للتعاون الصيني العربي في بناء ‘الحزام والطريق’ في الجلسة الافتتاحية للدورة السادسة للاجتماع الوزاري لمنتدى التعاون الصيني العربي، وإقامة معادلة “1+2+3” للتعاون التي تتخذ مجال الطاقة كمحور رئيسي ومجالي البنية التحتية وتسهيل التجارة الاستثمار كجناحين وثلاثة مجالات ذات تكنولوجيا متقدمة تشمل الطاقة النووية والفضاء والأقمار الصناعية والطاقة الجديدة كنقاط اختراق.
العلاقات التجارية والاقتصادية التونسية الصينيّة
بدأت العلاقات التجاريّة الرسميّة بين تونس والصين باتفاقية تم عقدها سنة 1958، وتعتبر تونس من أوائل الدول العربية التي أقامت مثْل هذه العلاقات الاقتصادية مع جمهورية الصين الشعبية حيث أقامت الحكومتان علاقات دبلوماسية رسمية سنة 1964، واستمرت العلاقات التجارية في التطور، خاصة بعد إنشاء ‘اللجنة الصينية التونسية المشتركة للتعاون الاقتصادي والتجاري والتكنولوجي’ عام 1983.
وأبدت بكين رغبة قويّة في الاستثمار في مشاريع البنية التحتية واسعة النطاق في تونس فقد قُدّر حجْم التجارة بين تونس والصين من شهر جانفي إلى حدود أفريل 2023 بـ 763 مليون دولار أي بزيادة سنوية في حدود 12،5 بالمائة.
وتُعتبر الصين ثالث أكبر مورّد للسلع الاستهلاكية لتونس اعتباراً من عام 2021، حيث بلغت الواردات السنوية 2.2 مليار دولار.
وقد شهد أيضاً قطاع الاستثمار التكنولوجي الذي يطرح مخاوف أمنية، تطورات إيجابية خاصة في السنوات الأخيرة حيث أصبحت الهواتف الذكية الصينية مثل ‘هواوي’، ‘OPPO’، ‘Xiaomi ‘، ‘VIVO’، Realme ، ‘OnePlus’ ، ‘Honor ‘، ‘Infinix’ وعلامات الأجهزة الكهربائية المنزلية والحواسب على سبيل المثال ‘Haier’، ‘ Flyco’، ‘ Lenovo’ والسيارات مثل ‘Chery’ وغيرها من العلامات التجارية، خيارًا مشهورًا بين المُستخدمين نظرًا لتميّزها بجودة تصنيع ممتازة ومواصفات متقدمة .
فمثلا، شركة ‘هواوي’ الصينية العملاقة للهواتف المحمولة لا تزال تتمتع بوضع مرموق في تونس.
وساهمت ‘هواوي’ تكنولوجيا في خلق عالم ذكي ومتصل بشكل كامل من خلال تطوير صناعة تكنولوجيا المعلومات والاتصال وتدريب المواهب الشابة كما مكنت الشباب المتحمسين من أفضل الفرص الوظيفية بالإضافة إلى ذلك، ستوفر الشركة الصينية فرصا تدريبية لما يقرب من 10000 طالب تونسي في المجال الرقمي في السنوات الخمس المقبلة عن طريق برامج مختلفة مثل أكاديمية ‘هواوي’ لتكنولوجيا المعلومات والاتصال وبرنامج بذور المستقبل”.
ومنذ سنة 2008 أطلقت ‘هواوي’ برنامج ‘بذور المستقبل’ لدعم المواهب في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصال في العالم ويندرج هذا البرنامج ضمن أنشطة الشركة في مجال المسؤولية الاجتماعية وهو يهدف إلى تمكين الطلبة من اكتساب الخبرات والمعارف في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات كما وقعت الشركة العديد من الاتفاقيات والشراكات مع عدة دول في العالم خاصة في مجال شبكة الجيل الخامس (G5).
مشاريع تونسية بتمويل صيني

الأكاديمية الدبلوماسية الدوليّة بتونس
موّلت جمهورية الصين الشعبية عدد من المشاريع التنموية في تونس نذكر منها مشروع الأكاديمية الدبلوماسية الدوليّة بتونس ومركز الشباب والرياضة في بن عروس، وهي هبات من الصين، إلى جانب مشاريع سد ملاق العلوي ومحطة معالجة مياه الصرف الصحي التي تتولي انجازها شركات صينية، تتقدم بثبات ويتواصل إنجازها بشكل سلس، ونذكر أيضا ما تم إعلانه مؤخرا بخصوص نجاح مشروع إنجاز أول حافلة صينية من نوع ‘كينغ لونغ’ التي تم تصنيعها وتركيبها في تونس.

أول حافلة صينية من نوع ‘كينغ لونغ’
وترتكز مجالات التعاون الاقتصادي والاستثمارات الصينية في تونس في مجال مشاريع البنية التحتية، فقد ساهمت الصين في إنجاز عدد من مشاريع البنية التحتية على غرار مبنى
الأكاديمية الدبلوماسية الدولية، والمستشفى الجامعي بصفاقس حيث وافق الجانب الصيني على تخصيص هبة جديدة لتمويل توسعته ومبنى الأرشيف الوطني والمركب الثقافي والرياضي بالمنزه 6، والمركز الشبابي والرياضي ببن عروس.
وقد تم مؤخرًا توقيع اتفاقية مع شركة ‘سيتشوان’ للطرق والجسور (المجموعة) المحدودة تشانغ ‘هانغ تشوان’ بشأن تنفيذ مشروع بناء جسر في مدينة بنزرت الواقعة في أقصى شمال تونس.
وسيساهم الجسر الذي ستبنيه الشركة الصينية في تخفيف الازدحام المروري وتسهيل مصالح سكان مدينة بنزرت وكل مناطق البلاد وسيسهل أيضا النشاط في ميناء بنزرت، وبالتالي تنمية التبادل التجاري بين تونس والجزائر وليبيا حيث سيبلغ طوله حوالي 2.1 كم وارتفاعه 59 مترا بما يسمح بمرور مختلف السفن، وسيكون أكبر جسر في تونس.
كما لا تزال المشاورات متواصلة بين البلدين بخصوص المدينة الصحية بالقيروان ومشروع الجسر الرابط بين الجرف وآجيم جربة ومشروع الطريق السريع على الحدود التونسية الجزائرية، وغيرها من المشاريع الكبرى التي تهم البنية التحتية ولو تم ابرام اتفاقيات ثنائية لتجاوز بعض العقبات التشريعية لفرغت الشركات الصينية من تنفيذ جملة من المشاريع الضخمة عل مستوى البنية التحتية.
ومن جهة أخرى تطور التعاون الصحي بين الصين وتونس خلال فترة الجائحة وقد استقبل المستشفى الجامعي الجديد بصفاقس، المنجز في إطار هبة من الصين، 1000 مصاب بالكورونا منذ انطلاق استغلاله ومكن هذا المستشفى من تخفيف الضغط الصحي المحلي حيث كانت الصين كانت أول بلد يقدم المساعدات الطبية ولقاحات الكورونا لتونس.
التبادل السياحي والثقافي

مؤتمر للتبادل الثقافي والحضاري بين الصين وتونس
شهد التعاون الثقافي بين الصين وتونس زيادة في السنوات الأخيرة، خاصة مع إطلاق المشروع الاثري الصيني التونسي المشترك.
كما توسعت التبادلات الثقافية بشكل مطرد، من خلال العلاقات الإعلامية والمشاريع الفنية (مثل الأحداث السينمائية) وغيرها من المبادرات.
هذا وتم توقيع بروتوكول للتعاون الثقافي للسنوات 2021-2024، يشمل تعزيز التعاون في مجال الصناعات الثقافية الإبداعية والرقمية، وتنظيم مهرجانات، ولقاءات فنية مشتركة بين الجانبين.
كما أن هناك عمل حثيث من أجل دعم التبادل الثقافي بين البلدين وتنظيم زيارات ومعارض فنية مشتركة بين الجانبين، حيث يتضمن هذا البروتوكول العديد من البرامج الثقافية مع الصين منها تعزيز التعاون في مجال الصناعات الثقافية الإبداعية والرقمية، وتنظيم مهرجان للثقافة الصينية في تونس ومثلها أيضا للثقافة التونسية في الصين.
وتعمل تونس بالتعاون مع الصين لإقامة أول مهرجان سينمائي صيني تونسي، إلى جانب التخطيط لتنفيذ العديد من المشاريع الثقافية الأخرى التي تشمل عدة قطاعات منها المسرح والسينما والآثار والصناعات السينمائية والترجمة وغيرها”.
تطلع لاستثمارات صينية أوسع في تونس

رغم تحسن المبادلات التجارية بين البلدين، إلا أن الأرقام تؤكد أن تونس تشكو عجزا مزمنا مع الصين يقدر وفق آخر البيانات المحيّنة الصادرة عن المعهد الوطني للإحصاء بأكثر من 8.4 مليار دينار خلال سنة 2023 علما وأن الصين تعتبر الشريك التجاري الرابع لتونس بعد فرنسا وإيطاليا وألمانيا، وتأتي في المركز 35 في قائمة الدول المستثمرة في تونس.
ومنذ إقامة البلدين لعلاقات دبلوماسية، أبرمت العديد من الاتفاقيات وبرامج التعاون في مجالات الصحة والتعليم والشباب والرياضة والفلاحة والثقافة والأمن والدفاع، لكن ورغم مرور أكثر من خمسة عقود على العلاقات الثنائية، إلا أن الاستثمارات الصينية المُباشرة في تونس لم تتجاوز إجمالا 34 مليون دولار، وهي استثمارات ضعيفة مقارنة بالأرقام المحققة في دول الجوار مثل مصر والمغرب والجزائر، أو في دول أوروبية.
مشاريع ضخمة بتمويل صيني تعترضها حواجز إدارية
رغم تطور العلاقات الصينية التونسية على جميع المستويات وخاصة منها العلاقات الاقتصادية والتجارية إلا أن هناك العديد من التحديات والعراقيل التي تواجهها ولتلافيها يجب أن تُخفض تونس من العبء الضريبي وحواجز الدخول أمام المستثمرين الصينيين ومزيد تحسين بيئة الاستثمار اجمالا إضافة إلى ضرورة تطوير الاستثمارات الصينية في تونس خاصة في ظل مختلف الإجراءات التي تم اتخاذها لتحسين مناخ الأعمال.
وبخصوص المبادلات التجارية البينية، يجب تبسيط الإجراءات قصد تيسير نفاذ المنتجات التونسية إلى السوق الصينية خاصة المنتجات الفلاحية والغذائية عبر تمكينها من استيفاء شروط الرقابة الفنية التي تفرضها السلطات الصينية عليها إثر دخولها إلى الأسواق الصينية بما من شأنه أن يساهم في تقليص العجز التجاري مع الصين.
تونس تتأمّل خيراً من الاستثمارات الصينية
ختامًا، تتمتع تونس بمزايا جغرافية وبإمكانها أن تصبح بوابة الشركات الصينية للاستثمار في أوروبا وإفريقيا آملين أن يرتفع نسق الاتصالات وأن تتكثف المشاورات بين رواد الأعمال الصينيين والتونسيين بعد أن كانت محدودة حيث لطالما حرصت تونس على دعم علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع جمهورية الصين الشعبية، وتطويرها مستقبلا في سياق ربط التجارة بالتنمية.
والتعاون الاقتصادي يجب أن يشمل مجالين، أولهما دعم الصادرات التونسية من أجل تقليص العجز التجاري مع هذه البلدان، وثانيهما دفع الاستثمارات الأجنبية المباشرة للصين في تونس.
كما من الضروري دفع العولمة الاقتصادية نحو مجالات أكثر انفتاحا ونجاعة وتوازن بما يضمن تحقيق النجاح المشترك من خلال تعزيز التعاون في مجالات البنية التحتية والصحة والسياحة والتنمية الخضراء والمبادلات البشرية عن طريق تنشيط التعاون الثنائي ومتعدد الأطراف والتعاون في السوق الثالثة مع الجانب التونسي والأطراف الأخرى في المستقبل وحث مزيد من الشركات الصينية على الاستثمار وإنشاء المصانع في تونس، والابتكار في طرق التمويل وتعزيز التواصل، بما يساعد تونس على تحويل مميزاتها الجيوغرافية إلى منافع اقتصادية في مجالات التصدير والتوظيف. هذا التوجه سيكون له الأثر البارز بخصوص تعميق وتنويع مجالات التعاون الاقتصادي بين البلدين.