بيئة

جزيرة قرقنة على حافة الاندثاربين إرث مهدد ومقاومة هشة

على بُعد بضعة أميال من مدينة صفاقس، يخوض أرخبيل قرقنة، هذه الجوهرة الممتدة على مساحة 150 كيلومتراً مربعاً فوق مياه المتوسط، معركة وجودية فبحسب الدراسات الأكثر تشاؤماً، قد يختفي نحو 60% من مساحتها بحلول نهاية القرن، إذ تتعرض سواحلها البالغ طولها 174 كيلومتراً لضربات متواصلة من تغير المناخ بين تآكل السواحل المتسارع وتملّح الأراضي الزراعية وغزو الأنواع الغازية مثل السلطعون الأزرق، أصبح توازن الجزيرة البيئي هشاً ومهدداً بالانهيار.


لكن خلف هذا المشهد القاتم، تتشكل تهديدات أخرى خفية لا تقل خطورة، أبرزها تحول الممارسات التقليدية إذ بدأ بعض الصيادين يستبدلون الشرفي التقليدي المصنوع من جريد النخل بآخر من البلاستيك، في انعكاس مزدوج لتهديد يطال التراث الثقافي والنظام البيئي في آن واحد.
وفي سباق مع الزمن، حيث تتقدم مياه البحر وتتلاشى العادات القديمة، يُطرح سؤال مصيري: هل ستنجح قرقنة في الحفاظ على هويتها أمام الضغط الثلاثي المتمثل في المناخ والأنواع الغازية والتحديث غير المنضبط؟
في هذا المقال، المدعوم بشهادة خاصة من السيد حافظ الهنتاتي لموقع L’Écho Tunisien، نستعرض التوتر القائم بين حماية التراث والتكيف مع التحولات البيئية.

حين يلتهم البحر الإرث الطبيعي والزراعي
يقع أرخبيل قرقنة في الجنوب الشرقي من تونس، على بعد 20 كيلومتراً من سواحل مدينة صفاقس، ويتكون أساساً من جزيرتين: قرقنة الشرقية وقرقنة الغربية.
تبلغ مساحته حوالي 150 كلم² بشريط ساحلي طوله 174 كلم، يمتد على 35 كلم من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي (DGEQV 2012). ، وتتمتع الجزر بتراث بيئي فريد في البحر الأبيض المتوسط، لكنها تواجه ضغطاً بيئياً غير مسبوق.
يؤكد الصحفي والناشط البيئي حافظ الهنتاتي أن هذه الهشاشة ناتجة عن عوامل طبيعية تتفاقم بفعل الاستغلال البشري المكثف لثروات الجزيرة.
الساحل في خطر: البحر يتقدّم… والأرض تتراجع!
تشير دراسات وزارة البيئة إلى تآكل سريع للسواحل في قرقنة، حيث تتقدم مياه البحر وتزيد من تملّح التربة، مما يهدد الغطاء النباتي والزراعة المحلية.
هذا التدهور البيئي ينعكس على التنوع البيولوجي، فالكائنات البحرية والطيور التي كانت تعمّر المنطقة بدأت تتراجع بشكل مقلق، فيما تواصل الأنواع الغازية تهديد الأنظمة البيئية القديمة.
ويحذر السيّد حاتم الهنتاتي من خطورة الوضع قائلاً: “الخطر حقيقي، وتزيده خطورة الطبوغرافيا المنخفضة للجزيرة، حيث لا يتجاوز ارتفاع بعض المناطق الساحلية 13 متراً فوق مستوى البحر، مما يجعلها عرضة مباشرة للغمر البحري، كل سنتيمتر يرتفع في مستوى البحر يعني مزيداً من الأراضي المهددة، سواء من حيث الأنظمة البيئية أو الأنشطة البشرية.”
الكائنات الغازية والاحتباس الحراري
تظهر آثار الاحتباس الحراري في قرقنة من خلال ارتفاع درجات الحرارة وتبدل البيئة البحرية، هذه التغيرات تخلّ بتوازن النظام البيئي وتفتح الباب أمام أنواع غازية مدمّرة، أخطرها هو السلطعون الأزرق القادم من البحر الأحمر، والذي يصفه الصيادون بـ”داعش” لما يحدثه من أضرار فادحة.
“السلطعون الأزرق كارثة حقيقية”، يقول الهنتاتي “فهو يفترس صغار الأسماك ويخرّب شباك الصيادين، متسبباً في خسائر اقتصادية فادحة”.
ويضاف إلى ذلك ظاهرة المد الفلكي التي تتفاقم عندما تتزامن مع الرياح الشمالية القوية وانخفاض الضغط الجوي، مما يؤدي إلى ارتفاع غير طبيعي في منسوب البحر وغمر السواحل المنخفضة كقرقنة.
قرقنة… وانهيار التنوع البيولوجي البحري
في مياهها الساحرة، تشهد قرقنة كارثة بيئية صامتة، فقد اختفى المحار العملاق (الناصرة)، وانخفضت أعداد الأخطبوط، رمز الصيد المحلي.
وحسب مرصد الأنواع المهددة في المتوسط (2022)، فقد تدهور النظام البيئي البحري للجزيرة إلى حدّ خطير.


الناصرة اختفت بنسبة 99% بسبب وباء بحري مرتبط بارتفاع الحرارة، والأخطبوط أصبح نادراً نتيجة الضغوط الحرارية وتغير الدورات التكاثرية، كما تراجعت أنواع الأسماك الصغيرة بسبب تدهور الأعشاب البحرية وهجوم السلطعون الأزرق، فيما تضاءلت كميات المحار والقواقع بفعل تحمّض المياه وارتفاع حرارة الرواسب.
الشرفي”… بين أصالة التراث وتلوث الحداثة”

صورة : اليونسكو

مبادرات محلية… مقاومة بيئية في وجه العاصفة

يعتبر الشرفي رمزاً من رموز الصيد التقليدي في قرقنة، وهو مصيدة بيئية ذكية مصنوعة من جريد النخل، تحترم النظام البحري.
“الشرفي التقليدي نموذج للتصميم البيئي المتكامل”، يوضح الهنتاني مضيفًا: ” يمثّل أسلوب صيد متوارثاً يحافظ على الموارد ويصون البيئة، لكن بعض الصيادين اليوم لجؤوا إلى استعمال البلاستيك بدلاً من المواد الطبيعية، ما يشكل خطراً على الحياة البحرية وتهديداً لتراث الجزيرة، إن استبدال المواد الطبيعية بالبلاستيكية لا يدمّر البيئة فقط، بل يشوّه الموروث الثقافي القرقني، ويضيف طبقة جديدة من التلوث البحري الدائم.”

رغم التحديات، لا تزال قرقنة تقاوم منذ سنة 2006، أطلق نادي ” Lions Club Sfax Thyna” عدة مشاريع لحماية البيئة البحرية وتعزيز الصيد التقليدي، وفي عام 2025، أعلنت بلدية قرقنة عن مبادرة «صفر بلاستيك في قرقنة»، وافتتحت أول آلة طحن للنفايات البلاستيكية في مركز تثمين الشباك بتاريخ 11 سبتمبر 2025، كخطوة ملموسة نحو اقتصاد دائري صديق للبيئة.
كما تمّ بدعم من الجامعة التونسية للبيئة والتنمية (FTED)، إنشاء نوادٍ مدرسية تُعنى بـ«المرونة المناخية والتنمية المستدامة» في مدارس قرقنة.
بين الغرق والبعث
اليوم، تقف قرقنة على مفترق طرق، فبين بحرٍ يتمدد وتقاليد تندثر، تجسد الجزيرة معضلة المتوسط أمام تغير المناخ، لكن وسط هذا الخطر، يوجد بصيص أمل من المبادرات المحلية والوعي الجماعي المتنامي، الذي قد يجعل من قرقنة نموذجاً للمقاومة البيئية والثقافية في وجه العولمة المناخية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *