الصراع في السودان … تطوّرات متسارعة وتداعيات متصاعدة على منطقة شمال أفريقيا
اتّسم المشهد العالمي بتتالي وتنوع الأزمات وتوسّع الاشتباكات المسلّحة التي طبعت الأوضاع الاقليمية على حد السواء. وقد أدّت التطورات المتلاحقة في بلدان إفريقيا جنوب الصحراء؛ التشاد والنيجر أو ليبيا إلى تأزّم الوضع الإقليمي، خاصة في ظلّ غياب توافقات حول حلول سلمية وارتفاع خطر الانزلاق إلى حروب أهلية.
ومع اندلاع الصراع في السودان[1]، زادت الأوضاع تعقيداً حيث أدى الصراع الدائر منذ أفريل 2023 بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع[2] بقيادة حميدتي إلى مقتل أكثر من 12 ألف مدني ونزوح أكثر من 7 مليون آخرين، منهم مليون ونصف لجؤوا إلى دول الجوار وفقا لآخر تقرير للأمم المتحدة التي وصفت الوضع في السودان بـ “أكبر أزمة نزوح في العالم”.
وتكمن خصوصية تداعيات الحرب في السودان في تصنيف السودانيين الذين فرّوا بسبب الصراع الى دول الجوار باللاجئين، وهي وضعية قانونية تكفل لهذه الفئة التمتع بالحماية الدولية للاجئين ومنع إعادتهم إلى بلدانهم الأصلية وتنظيم إقامتهم في البلد المضيف، ومن المتوقع أن يزداد عددهم في المستقبل القريب، وتختلف وضعيتهم عن حال المهاجرين من افريقيا جنوب الصحراء الذين غادروا بلدانهم لتحسين ظروف العيش أو بسبب الصراعات الداخلية في بعض الحالات.
وتسارعت التطورات خلال الفترة الأخيرة حيث سيطرت قوات الدعم السريع منذ 15 ديسمبر 2023 وخلال أربعة أيام على مدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة[3]، وهي خطوة اعتبرها مراقبون عسكريون وسياسيون تطورا نوعيا في الصراع لأهمية الولاية، كونها تُعد ثاني أكبر ولاية من حيث عدد السكان وثاني قطب اقتصادي بعد العاصمة وتتوفر على موقع جغرافي واستراتيجي متميز يربط بين شرق البلاد وشمالها وجنوبها.
ومع سيطرة قوات الدعم السريع على ولاية الجزيرة، تتفاقم المخاوف من اتساع رقعة القتال إلى الولايات المجاورة، حيث ينبئ انسحاب الجيش من مدينة ود مدني بفقدان قدرته على دعم وإسناد قواته في بقية الولايات ولا سيما منها شرق البلاد وخاصة ولاية البحر الأحمر، التي أصبحت منذ اندلاع الصراع مقرا بديلا للحكومة السودانية وللمجلس السيادي.
وبالرغم من رسائل الطمأنة التي بعث بها حميدتي بعد السيطرة على ولاية الجزيرة، إلا أن المنظمة الدولية للهجرة قد أعلنت عن فرار حوالي 300 ألف شخص من الولاية، من جملة 500 ألف شخص كانوا قد نزحوا إليها من العاصمة الخرطوم.
ورغم توقيع اتفاقية «إعلان أديس أبابا» يوم 2 جانفي للعمل على وقف الصراع الدائر، سيستمر تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد، حيث توقع البنك الدولي أن ينكمش الاقتصاد السوداني بنسبة 12 بالمئة[4] بسبب الصراع الذي وقف الإنتاج ودمر رأس المال البشري وشل قدرة الدولة.
موارد طبيعية هامة غذت الحروب الداخلية والأطماع الخارجية
كان للموارد الطبيعية وخاصة النفط الدافع الرئيسي وراء تقسيم السودان إلى شمال وجنوب سنة 2011، حيث أصبح جنوب السودان يسيطر على حوالي 75 بالمائة من النفط السوداني، كما يُشكل الذهب في الصراع الحالي مطمعاً للقوات المتنازعة وعدداً من الأطراف الخارجية المتدخلة سواء بشكل مباشر أو غير مباشر في الصراع.
ويحتل السودان المركز الـ 13 عالمياً والثالث إفريقيا في إنتاج الذهب، حيث ينتج نحو 80 طناً سنوياً ويشكل هذا المعدن نصف صادرات السودان ويهرب حوالى 80 % من الإنتاج، بينما تقدر الاحتياطات غير المستغلة بنحو 1550 طناً.
كما يحتل السودان المرتبة السادسة عالميا في تربية الماشية وهو يزخر بعديد الموارد الطبيعية على غرار خامات الحديد والنحاس والفضة والمايكا والمنغنيز والكروم والبلاتين واليورانيوم والصمغ والرمال السوداء والرخام وغيرها.
وظلت هذه الموارد وقودا للصراعات الداخلية والتدخلات الأجنبية التي من مصلحتها بقاء السودان وغيره من دول المنطقة في وضعية هشاشة تعجز معها عن حسن إدارة مواردها وتوظيفها في تحقيق التنمية الشاملة والدائمة لشعوبها والمنطقة والخروج من بوتقة الفقر المدقع المحيطة بها.
تداعيات الصراع على منطقة شمال أفريقيا
إنّ تواتر الصراعات المسلحة في دول افريقيا جنوب الصحراء واندلاع الصراع في السودان التي تسارعت وتيرها خلال الفترة الأخيرة، أدّت إلى ارتفاع موجات الهجرة العابرة للساحل الافريقي والتي بلغت حدود شمال افريقيا، لأنها أصبحت اليوم وبسبب موقعها الجغرافي نقطة عبور رئيسية إلى أوروبا.
- التداعيات الإنسانية
أدى الصراع القائم في السودان إلى تفاقم أزمة انعدام الأمن الغذائي لتشمل حوالي 20 مليون سوداني، إضافة إلى ارتفاع عدد الأشخاص المحتاجين إلى مساعدات إنسانية عاجلة إلى حوالي 25 مليون شخص وفقا لمكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية.
ولم يتم تمويل نداء الأمم المتحدة لعام 2023 من أجل السودان إلا بنسبة الثلث ويتوجب توفير 4 مليار دولار لتلبية احتياجات المتأثرين بالحرب داخل السودان وخارجه.
على صعيد أخر، ارتفع عدد النازحين داخليا حسب منظمة الهجرة الدولية إلى حوالي 6 مليون شخص، فيما لجأ مليون ونصف آخرين إلى الدول المجاورة، بما يشكل عبئا اقتصاديا على هذه الدول وسط مخاوف من تبعات النزاع وتصاعد الهجرة غير النظامية على الوضع الأمني.
- التداعيات الأمنية
إنّ احتمال انتشار السلاح وشبكات الاتجار بالبشر وانتعاش الجماعات الإرهابية الناشطة بمنطقة الساحل والصحراء وارد جدا في هذه الظرفية المعقدة، وذلك من خلال استغلال الحركات الإرهابية للأوضاع المنهارة، واستثمار الفوضى لتهديد أمن واستقرار دول المنطقة، باعتبار وجود السودان في محيط إقليمي هش أمنيا وباعتبار صعوبة فصل المحددات الداخلية للنزاع في السودان عن السياق الإقليمي.
كما يثير وجود المقاتلين الأجانب في صفوف المجموعات المسلحة السودانية قلقا دوليا وإقليميا من تكرار السيناريو الليبي، حيث لطالما شكل هؤلاء المقاتلون عائقا أمام كل المبادرات الدولية الرامية لإعادة الاستقرار إلى ليبيا.
موقع تونس من الوضع في السودان
لا ترتبط تونس بحدود مباشرة مع السودان، كما أن حجم المبادلات التجارية بين البلدين يظل محدودا حيث بلغت صادرات السودان إلى تونس سنة 2021 حوالي 9 مليون دولار بينما بلغت صادرات تونس إلى السودان بحوالي 2 مليون دولار في نفس العام.
ولن تكون هذه المبادلات بمنأى عن التأثر من الوضع السائد في السودان، ولكن أهم التبعات التي يجب الانتباه إليها هي تلك المرتبطة بتفاقم الهجرة غير النظامية للسودانيين باتجاه تونس وبإمكانية انتشار الحركات الإرهابية لبث الفوضى في المنطقة.
كما تمكنت الدولة التونسية من إجلاء التونسيين العالقين في السودان، كما أصدرت وزارة الخارجية في 15 أفريل 2023، بيانا أعربت فيه عن قلقها من الأوضاع الأمنية في السودان، وتأثيرها على العملية السياسية، ودعت جميع الأطراف إلى خفض التصعيد، واعتماد أعلى درجات ضبط النفس.
- تفاقم الهجرة غير النظامية باتجاه تونس
يكفي الرجوع في هذا الإطار إلى البيانات الصادرة عن مكتب المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في تونس التي تشير إلى ارتفاع عدد اللاجئين وطالبي اللجوء إلى حدود شهر ديسمبر إلى حوالي 14700 مقارنة بـ 9000 إلى حدود ديسمبر من سنة 2022، ويعود ذلك إلى ارتفاع عدد المهاجرين السودانيين.
وقد ارتفع عدد السودانيين المسجلين لدى مكتب المفوضية إلى قرابة الـ 4850 لاجئ وطالب لجوء ليحتلوا بذلك المرتبة الأولى أمام السوريين ثم الإيفواريين.
المصدر: مكتب المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في تونس
فيما كان عددهم إلى حدود شهر جانفي 2023 لا يتجاوز الـ 513 شخصا بين لاجئ وطالب لجوء، بما يؤكد التداعيات المباشرة لتطورات الوضع في السودان بشكل مباشر على تونس وضرورة استعداد السلطات التونسية لهذه التدفقات والتنسيق مع مكتب المفوضية العليا لشؤون اللاجئين بتونس في خصوصهم.
المصدر: مكتب المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في تونس
وتجدر الإشارة إلى أن 4850 لاجئ وطالب لجوء هو العدد المسجل للسودانيين لدى مكتب المفوضية ولا ينفي ذلك وجود آخرين غير مسجلين ومقيمين بصفة غير شرعية.
وتكمن خصوصية تداعيات الصراع في السودان في تصنيف السودانيين الذين فرّوا من الصراع باللاجئين[5]، وهي وضعية قانونية تكفل لهذه الفئة التمتع بالحماية الدولية للاجئين، كما تكمن الخصوصية أيضا في ارتفاع تدفق السودانيين في وقت وجيز بسبب تصاعد وتيرة الصراع، وتختلف هذه الوضعية عن حال المهاجرين من افريقيا جنوب الصحراء الذين غادروا بلدانهم أما لتحسين ظروف العيش أو بسبب صراعات داخلية في بعض الحالات.
وجدير بالذكر أن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين[6] أدرجت السودان ضمن قائمة الدول التي تعيش حالة طوارئ وما يتضمنه ذلك من تدخلات ذات الصلة.
وأمام تفاقم هذه الظاهرة، تبرز أهمية تحليل وإدارة الهجرة غير النظامية في تونس.
التداعيات المحتملة:
تتمثّل أهم التداعيات المحتملة للأزمة في السودان على تونس في:
- ارتفاع منسوب المخاطر الأمنية خاصة في المناطق الحدودية الجنوبية التونسية الليبية. وتجدر الاشارة في هذا السياق إلى هشاشة الوضع الاقليمي في منطقة شرق إفريقيا وخاصة الدول المجاورة للسودان الذي ازداد حدّة بعد تفاقم ظاهرة الهجرة غير النظامية وأيضا توسّع رقعة الصراع المسلح.
- ارتفاع ظاهرة العمل في القطاع الموازي خاصة وأن السودانيين يعتبرون تونس كأرض مقصد وليس نقطة عبور.
- تسجيل ضغوط إضافية على مستوى التزود بالمواد الغذائية الأساسية على اعتبار أن حوالي ثلث اللاجئين من السودان أطفال (على خلاف المهاجرين من الأفارقة جنوب الصحراء الذين عادة ما يعتبرون كيد عاملة نشيطة). وتبرز في هذا الإطار أهمية متابعة وتحليل هيكلة اللاجئين لتوفير الظروف الحياتية الأساسية خاصة للأطفال.
التوصيات
اعتبارا لتواتر الأزمات والحروب وخاصة تفاقم ظاهرة المهاجرين غير النظامين واللاجئين تبرز أهمية:
- تحديث التشريعات الخاصة بالهجرة، واعتماد قانون وطني للجوء لتحديد المسؤوليات ومجال تدخل السلطات التونسية وعدم ترك المسألة بيد المنظمات الدولية الإنسانية العاملة في تونس أو منظمات المجتمع المدني المتدخلة في هذا المجال.
- ضبط استراتيجية شاملة لإحكام التعاطي مع هذه الظاهرة تتضمن اعتماد الإطار المؤسساتي والترتيبي الملائم خاصة على مستوى توزيع المهام وتقاسم المسؤوليات (توفير إحصائيات وطنية شاملة، تحديد الهياكل العمومية المسؤولة على التنسيق، مراجعة التشريع المتعلق باليد العاملة الأجنبية، …).
- أنشاء قاعدة بيانات وإحصائيات دقيقة تمكن من التعاطي مع هذا الملف بشكل أكثر حرفية وجدية وتحقيق المعادلة بين المقاربة الإنسانية والمقاربة الأمنية وفقا لالتزامات تونس الدولية في مجال القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي للجوء وبما يحفظ أمنها واستقرارها.
- إعداد دراسة حول تداعيات الأزمات في افريقيا وخاصة الصراع المسلّح في السودان على تونس والاستئناس بنتائجها عند التفاوض مع المؤسسات المالية العالمية وأيضا في إطار التعاون الثنائي.
- مضاعفة التنسيق على المستوى الوطني في إطار مقاربة شاملة وجامعة ومع جميع الشركاء الدوليين من دول ومنظمات إقليمية ودولية.
- التنسيق مع المؤسسات الاقليمية الافريقية (البنك الافريقي للتنمية، الاتحاد الافريقي، …الخ) لحسن إدارة هذه الأزمة خاصة بعد قرار مصر في شهر جوان بفرض تأشيرات على جميع السودانيين لدخول أراضيها كإجراء احترازي للحد من انتشار الأنشطة غير القانونية.
[1] يبلغ عدد سكان السودان حوالي 47 مليون ساكن ويعتبر ثالث أكبر بلد افريقي من حيث المساحة.
[2] مجموعات عسكرية تشكلت من مليشيا الجنود واعترفت بها الدولة رسميا عام 2013، قائدها محمد حمدان دقلو المعروف باسم حميدتي. وقد أوكلت إلى هذه القوات مهمات مختلفة تتعلق بالقضاء على حركات التمرد في دارفور غربي السودان وحراسة الحدود ومكافحة التهريب.
[3] تعتبر ولاية الجزيرة سلة غذاء السودان حيث تعد أهم المناطق الزراعية وتضم أكبر مشاريع الري في العالم المعروف ب “مشروع الجزيرة” الذي يمتد على مساحة عشرة آلاف كلم مربع ويؤمن ري مساحات القطن والقمح باستخدام مياه النيل الأزرق عبر شبكة قنوات للري تصل إلى 4300 كلم. كما تشكل الولاية أكبر مخزون استراتيجي من السماد الصناعي على غرار اليوريا.
[4] https://www.worldbank.org/en/news/press-release/2023/10/04/to-avert-a-lost-decade-africa-must-urgently-achieve-stability-increase-growth-and-create-jobs
[5] https://www.worldbank.org/en/publication/wdr2023
[6] https://help.unhcr.org/sudan/ar/