الوطن القبلي: تاكلسة من جمال طبيعية إلى خطر الاستغلال البيئي المفرط
في شمال شرق تونس، تجسد منطقة تاكلسة، الواقعة في أقصى شمال غرب الوطن القبلي، توازنًا هشًا بين الطبيعة المحمية والضغوط البشرية المتزايدة، ومن خلال زيارة ميدانية، يكتشف الزائر ساحلًا ذو جمال طبيعي، يتناقض مع تحديات بيئية كبرى وإدارة لا تزال غير مناسبة في مواجهة تزايد أعداد الزوار.
ويقدم الوطن القبلي، بمناظره من الرمال الناعمة والصخور المنحوتة بفعل البحر والرياح، إطارًا طبيعيًا نادر الأصالة وفي قلب هذه المنطقة، يرتفع قصر أنيق قبالة البحر، بمثابة جوهرة حيث تتناغم العمارة مع الطبيعة بانسجام، تحيط بالقصر حدائق، ويجسد هذا المكان تراثًا ثقافيًا استثنائيًا وإمكانيات سياحة راقية لا تزال محدودة لكنها واعدة.
ومع ذلك، يضع تزايد أعداد الزوار تدريجيًا هذا المحيط الطبيعي الهش تحت ضغط كبير، لا توجد حاليًا أي وسائل للتوعية لتشجيع السلوكيات المسؤولة فلا توجد لوحات إرشادية أو تحذيرات على الشواطئ، وتتراكم النفايات البلاستيكية والزجاجية دون وجود تنظيم فعّال لجمعها وتواجه البلدية صعوبة في إدارة الساحل بشكل مستدام، ويقتصر التنظيف على فترات محدودة ومتواضعة.
إضافة إلى ذلك، تواجه منطقة تاكلسة ظاهرة التصحر المقلقة، والتي تتمثل أساسًا في تقدم الرمال ويزيد التغير المناخي والأنشطة البشرية، من حدّة هذه الظاهرة التي تُضعف الغطاء النباتي وتعّرض التربة للتعرية بفعل الرياح حيث تشير الإحصاءات إلى أن نحو 80٪من الأراضي التونسية متأثرة بالتصحر، ما يشكل تحديًا بيئيًا كبيرًا للبلاد.
في منطقة تاكلسة والوطن القبلي، يهدّد التصحّر التوازن البيئي الهش، بما يشمل الأراضي الزراعية والمساحات الطبيعية حيث تتطلب مواجهة هذه الظاهرة تدخلات منسقة، تشمل تثبيت التربة عبر التشجير بأنواع مناسبة، وإدارة مستدامة للأراضي الزراعية، وتنفيذ حملات توعية للحفاظ على هذه النظم البيئية الضعيفة، بهدف الحد من انتشار الكثبان الرملية على المناطق السكنية والساحلية.

على الميدان، يقوم قيس حبشي بجمع النفايات البلاستيكية بيديه العاريتين، دون أي تجهيزات مهنية، يتنقل سيرًا على الأقدام بين الشواطئ، يلتقط هذه النفايات ليعيد بيعها لاحقًا، ورغم غياب الوسائل المناسبة، فإن جهده يعكس التزامًا شخصيًا قويًا في مواجهة التلوث المتزايد لكنه يأمل في الحصول على دعم منظم قريبًا، عبر إنشاء نقطة دائمة لجمع النفايات في تاكلسة، مع إمكانية تشغيل أشخاص آخرين لتوسيع هذه المبادرة الحيوية لحماية الساحل.
أما على مستوى السلامة بالشواطئ، فالوضع مقلق أيضًا، فغياب السباحين المنقذين في ذروة الموسم السياحي يعرض المصطافين لمخاطر كبيرة في منطقة قد تكون تياراتها البحرية قوية وخطيرة، مما يزيد من الحاجة الملحّة إلى تنظيم أفضل.
تواجه منطقة تاكلسة، التي ما زالت محافظة نسبيًا على عزلتها بفضل صعوبة الوصول إلى بعض مناطقها البحرية، معضلة حقيقية فكيف يمكن الحفاظ على مساحاتها الطبيعية الفريدة مع استيعاب نمو سياحي متزايد؟ فافتتاح طريق محلية جديدة، بالقرب من فيلات فاخرة يملكها رجال أعمال بارزون، قد يقلب التوازن الحالي عبر تسهيل الوصول وزيادة الإقبال.
أطلق الفاعلون المحليون، على غرار وكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي (APAL)، والشركة الناشئة “Tunisian Campers”، وجمعية “TunSea”، حملات تنظيف وتوعية متفرقة لكن هذه التدخلات لا تزال محدودة ولا ترقى لمستوى التحديات فقد شدّد الممثل الجهوي لوكالة وكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي كريم بوليفة، على ضرورة الاستباق لتفادي أن تشهد منطقة تاكلسة نفس المصير الذي عرفته شواطئ أخرى في الوطن القبلي نتيجة الإقبال الكبير.
وتبرز هنا أكثر من أي وقت مضى، الحاجة إلى ترسيخ السلوك المدني لدى الزوار من خلال إنشاء محمية طبيعية حول شاطئ “المنڨع”، بما يتضمنه من مناخ محلي خاص ومنبع مياه عذبة وثروة بيئية، ليجسد الإرادة في إرساء تاكلسة ضمن ديناميكية تنمية مستدامة، تحترم التنوع البيولوجي وتخدم المجتمعات المحلية.
الحمّامات بين ضغط السياحة ورهانات البيئة
على بعد نحو 60 كيلومترًا جنوب تاكلسة، تقدم شواطئ مدينة الحمّامات صورة معاكسة تمامًا، فهي من أكثر الأماكن الساحلية إقبالًا وتجهيزًا، إذ تستقطب آلاف السياح التونسيين والأجانب سنويًا، لكن وراء هذه الشعبية تكمن حقيقة مقلقة وهي تعرية الشريط الساحلي، مع تراجعه بشكل متواصل مما ساهم في تقلّص المساحات الرملية، هذه الظاهرة تتضاعف بسبب الضغط العمراني وبناء منشآت قريبة جدًا من الشاطئ، إضافة إلى النشاط السياحي المكثف، ما يضع توازن المنظومة البيئية الساحلية على المحك.
رغم محاولات التهيئة والحماية، تبقى التدخلات محدودة مقارنة بحجم التدهور وهكذا تعكس الحمامات التحدّيات نفسها التي قد تواجهها تاكلسة في حال توسّع النشاط السياحي فيها دون ضوابط بيئية صارمة، فهي مثال ملموس على مخاطر الاستغلال المفرط وغير المتحكم فيه للموارد الطبيعية.
وفي مواجهة هذا الوضع، أنجزت وكالة وكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي دراسة معمقة حول شاطئ الحمامات بميزانية تناهز الـ 300 مليون دينار، مع برمجة انطلاق التنفيذ سنة 2026.
وإدراكًا لخطورة التدهور، بادرت الوكالة بإجراء عاجل يتمثل في إعادة ضخ الرمال في بعض المناطق الأكثر هشاشة، كخطوة مؤقتة لتأخير تراجع مستوى البحر، وعلى المدى الطويل، تعتزم الوكالة اعتماد مقاربة مشابهة لتجربة مدينة سليمان، حيث أثبتت تقنيات الحماية البيئية والهندسية فعاليتها في تثبيت الخط الساحلي، ويشمل هذا المخطط حلولاً طبيعية وتقنية متكاملة تضمن حماية الشاطئ من آثار التغير المناخي وتخفف ضغوط التآكل بشكل دائم.
الإعلام البيئي من أجل انتقال أخضر
تندرج هذه الزيارة الصحفية في إطار مشروع دعم الإعلام التونسي (PAMT2)، الذي يهدف إلى تكوين الصحفيين في مجال الصحافة البيئية لمواجهة التحديات الكبرى المرتبطة بالتغير المناخي ويركز البرنامج على تطوير قدرات الإعلاميين في المعالجة العلمية والموضوعية للقضايا البيئية، مع توظيف الخبرة التقنية وأدوات صحافة البيانات.
ويأتي هذا المشروع بالتعاون مع مشروع دعم الحوكمة البيئية والمناخية للانتقال البيئي في تونس (PAGECTE)، المنفذ من قبل الوكالة الألمانية للتعاون الدولي (GIZ) بالشراكة مع وزارة البيئة ويُموّل المشروع من طرف الاتحاد الأوروبي والوزارة الاتحادية للتعاون الاقتصادي والتنمية (BMZ)، في إطار برنامج “تونس الخضراء والمستدامة” للاتحاد الأوروبي.
تشكل هذه المبادرة محطّة مهمة لتزويد الصحافة التونسية بالأدوات الضرورية لإنتاج مضامين دقيقة ومسؤولة، قادرة على رفع وعي الجمهور والتأثير في السياسات العامة، من أجل إنجاح الانتقال البيئي وحماية مستقبل الساحل التونسي.